فصل: الوقوف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.القراءات والوقوف:

قال النيسابوري:

.القراءات:

{والسابحات سبحاً فالسابقات سبقاً} بالإدغام فيهما: أبو عمرو غير عباس {أئنا} {أئذا} كما مر في (الرعد) إلا ابن عامر فإنه وافق الكسائي {ناخرة} بالألف: حمزة وعلى غير نصير وعتيبة وخلف ورويس وعاصم غير المفضل وحفص و{طوى} كما مر في (طه) وكذا ما بعدها إلا حمزة وخلف في اختياره فإنهما يفتحان. ومناه {تزكى} بتشديد الزاي: أبو جعفر ونافع وابن كثير وعباس ويعقوب {منذر من} بالتنوين: يزيد وعباس. الآخرون: بالإضافة للتخفيف.

.الوقوف:

{غرقاً} o لا {نشطاً} o لا {سبقاً} o لا {أمراً} o م لأن جواب القسم محذوف وهو ليبعثن ولأنه وصل لأوهم أن {يوم} ظرف {المدبرات} وليس كذلك لأن تدبير الملائكة قد انقضى وقتئذ بل عامل {يوم} {تتبعها} {الراجفة} o لا {الرادفة} o ط {واجفة} o ط {خاشعة} o م لتناهي وصف القيامة وابتداء حكاية قولهم في الدنيا {في الحافرة} ط لمن قرأ {أئذا} مستفهماً {نخرة} o ط {خاسرة} o م لتناهي قولهم بالإنكار وابتداء أخبار الله تعالى: {واحدة} o ط {بالساهرة} o ط {موسى} o م لأن {إذ ناداه} يجوز أن يكون ظرفاً لا ذكر قاله السجاوندي. ويحتمل عندي تعلقه بالحديث وإن لم يجز تعلقه بإتيان الحديث {طوى} o ج لاحتمال أن يكون {اذهب} مفعول {ناداه} لأنه في معنى القول واحتمال أن يكون مفعول القول المحذوف {طغى} o للآية مع اتفاق الجملتين والوصل أوجه للفاء {تزكى} o لا للعطف {فتخشى} ط للآية وانتهاء الاستفهام مع العطف بفاء التعقيب {الكبرى} o ز لذلك إنما كان الوصل أوجه للفاء واتصال المقصود {وعصى} o {يسعى} o {فنادى} o {الأعلى} o والوصل هاهنا ألزم للعبرة بتعجيل المؤاخذة {والأولى} o ط {يخشى} o ط لبتدل الكلام لفظاً ومعنى وابتداء الاستفهام {أم السماء} o ط بناء على أن الجملة لا تقع صفة للمعرفة وتقدير حذف الموصول من ضيق العطن فاعرفه {بناها} o لا {فسوّاها} o لا {ضحاها} o ص {دحاها} o ط بناء على أن ما بعده كالتفسير للدحو وهو تمهيدها لأجل السكنى، وجوز أن يكون {أخرج} حالاً بإضمار (قد) فلا وقف {مرعاها} o ص {أرساها} o {ولأنعامكم} o ط {الكبرى} o ز لأن {يوم} ظرف {جاءت} وعامل (إذا) مقدّر تقديره أي ترون أو كان ما كان، وجوز أن يكون {يوم} مفعول (اذكر) وعامل (إذا) مقدّر قبل يوم، ويجوز أن يكون مجموع الشرط والجزاء وهو قوله: {فأما من طغى} إلى آخره جوابا لقوله: {فإذا جاءت}.
{سعى} o ط {لمن يرى} o {طغى} o لا {الدنيا} o لا {المأوى} ط {الهوى} o لا {المأوى} o ط {مرساها} ط {ذكراها} o ط {منتاها} o ط {يخشاها} o ط {ضحاها} o. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَالنازعات غرقاً (1)} فيه مسألتان:
المسألة الأولى:
اعلم أن هذه الكلمات الخمس، يحتمل أن تكون صفات لشيء واحد، ويحتمل أن لا تكون كذلك، أما على الاحتمال الأول فقد ذكروا في الآية وجوهاً أحدها: أنها بأسرها صفات الملائكة، فقوله: {والنازعات غرقاً} هي الملائكة الذين ينزعون نفوس بني آدم فإذا نزعوا نفس الكفار نزعوها بشدة، وهو مأخوذ من قولهم نزع في القوس فأغرق يقال: أغرق النازع في القوس إذا بلغ غاية المدى حتى ينتهي إلى النصل، فتقدير الآية: والنازعات إغراقاً، والغرق والإغراق في اللغة بمعنى واحد، وقوله: {والناشطات نَشْطاً} النشط هو الجذب يقال: نشطت الدلو أنشطها وأنشطتها نشطاً نزعتها برفق، والمراد هي الملائكة التي تنشط روح المؤمن فتقبضها، وإنما خصصنا هذا بالمؤمن والأول بالكافر لما بين النزع والنشط من الفرق فالنزاع جذب بشدة، والنشط جذب برفق ولين فالملائكة، تنشط أرواح المؤمنين كما تنشط الدلو من البئر فالحاصل أن قوله: {والنازعات غرقاً والناشطات نَشْطاً} قسم بملك الموت وأعوانه إلا أن الأول إشارة إلى كيفية قبض أرواح الكفار، والثاني إشارة إلى كيفية قبض أرواح المؤمنين، أما قوله: {والسابحات سَبْحاً} فمنهم من خصصه أيضاً بملائكة قبض الأرواح، ومنهم من حمله على سائل طوائف الملائكة، أما الوجه الأول: فنقل عن علي عليه السلام، وابن عباس ومسروق، أن الملائكة يسلون أرواح المؤمنين سلاً رفيقاً، فهذا هو المراد من قوله: {والناشطات نَشْطاً} ثم يتركونها حتى تستريح رويداً، ثم يستخرجونها بعد ذلك برفق ولطافة كالذي يسبح في الماء فإنه يتحرك برفق ولطافة لئلا يفرق، فكذا هاهنا يرفقون في ذلك الاستخراج، لئلا يصل إليه ألم وشدة فذاك هو المراد من قوله: {والسابحات سَبْحاً} وأما الذين حملوه على سائر طوائف الملائكة فقالوا: إن الملائكة ينزلون من السماء مسرعين، فجعل نزولهم من السماء كالسباحة، والعرب تقول للفرس الجواد، إنه السابح، وأما قوله: {فالسابقات سَبْقاً} فمنهم من فسره بملائكة قبض الأرواح يسبقون بأرواح الكفار إلى النار، وبأرواح المؤمنين إلى الجنة، ومنهم من فسره بسائر طوائف الملائكة، ثم ذكروا في هذا السبق وجوهاً أحدها: قال مجاهد وأبو روق إن الملائكة سبقت ابن آدم بالإيمان والطاعة، ولا شك أن المسابقة في الخيرات درجة عظيمة قال تعالى: {والسابقون السابقون أُوْلَئِكَ المقربون} [الواقعة: 10، 11] وثانيها: قال الفراء والزجاج: إن الملائكة تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء لأن الشياطين كانت تسترق السمع وثالثها: ويحتمل أن يكون المراد أنه تعالى وصفهم فقال: {لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول} [الأنبياء: 27] يعني قبل الإذن لا يتحركون ولا ينطقون تعظيماً لجلال الله تعالى وخوفاً من هيبته، وههنا وصفهم بالسبق يعني إذا جاءهم الأمر، فإنهم يتسارعون إلى امتثاله ويتبادرون إلى إظهار طاعته، فهذا هو المراد من قوله: {فالسابقات سَبْقاً}، وأما قوله: {فالمدبرات أَمْراً} فأجمعوا على أنهم هم الملائكة: قال مقاتل يعني جبريل وميكائيل، وإسرافيل وعزرائيل عليهم السلام يدبرون أمر الله تعالى في أهل الأرض، وهم المقسمات أمراً، أما جبريل فوكل بالرياح والجنود، وأما ميكائيل فوكل بالقطر والنبات، وأما ملك الموت فوكل بقبض الأنفس، وأما إسرافيل فهو ينزل بالأمر عليهم، وقوم منهم موكلون بحفظ بني آدم، وقوم آخرون بكتابة أعمالهم وقوم آخرون بالخسف والمسخ والرياح والسحاب والأمطار.
بقي على الآية سؤالان:
السؤال الأول:
لم قال: {فالمدبرات أَمْراً}، ولم يقل: أموراً فإنهم يدبرون أموراً كثيرة لا أمراً واحدًّا؟ والجواب: أن المراد به الجنس، وإذا كان كذلك قام مقام الجمع؟
السؤال الثاني:
قال تعالى: {إن الأمر كله لله} فكيف أثبت لهم هاهنا تدبير الأمر؟
والجواب: لما كان ذلك الإتيان به كان الأمر كأنه له، فهذا تلخيص ما قاله المفسرون في هذا الباب، وعندي فيه وجه آخر: وهو أن الملائكة لها صفات سلبية وصفات إضافية، أما الصفات السلبية فهي أنها مبرأة عن الشهوة والغضب والأخلاق الذميمة، والموت والهرم والسقم والتركيب من الأعضاء والأخلاط والأركان، بل هي جواهر روحانية مبرأة عن هذه الأحوال، فقوله: {والنازعات غرقاً} إشارة إلى كونها منزوعة عن هذه الأحوال نزعاً كلياً من جميع الوجوه وعلى هذا التفسير: {النازعات} هي ذوات النزع كاللابن والتامر، وأما قوله: {والناشطات نَشْطاً} إشارة إلى أن خروجها عن هذه الأحوال ليس على سبيل التكليف والمشقة كما في حق البشر، بل هم بمقتضى ماهياتهم خرجوا عن هذه الأحوال وتنزهوا عن هذه الصفات، فهاتان الكلمتان إشارتان إلى تعريف أحوالهم السلبية، وأما صفاتهم الإضافية فهي قسمان أحدهما: شرح قوتهم العاقلة أي كيف حالهم في معرفة ملك الله وملكوته والاطلاع على نور جلاله فوصفهم في هذا المقام بوصفين أحدهما: قوله: {والسابحات سَبْحاً} فهم يسبحون من أول فطرتهم في بحار جلال الله ثم لا منتهى لسباحتهم، لأنه لا منتهى لعظمة الله وعلو صمديته ونور جلاله وكبريائه، فهم أبداً في تلك السباحة وثانيهما: قوله: {فالسابقات سَبْقاً} وهو إشارة إلى مراتب الملائكة في تلك السباحة فإنه كما أن مراتب معارف البهائم بالنسبة إلى مراتب معارف البشر ناقصة، ومراتب معارف البشر بالنسبة إلى مراتب معارف الملائكة ناقصة، فكذلك معارف بعض تلك الملائكة بالنسبة إلى مراتب معارف الباقين متفاوتة، وكما أن المخالفة بين نوع الفرس ونوع الإنسان بالماهية لا بالعوارض فكذا المخالفة بين شخص كل واحد من الملائكة وبين شخص الآخر بالماهية فإذا كانت أشخاصها متفاوتة بالماهية لا بالعوارض كانت لا محالة متفاوتة في درجات المعرفة وفي مراتب التجلي فهذا هو المراد من قوله: {فالسابقات سَبْقاً} فهاتان الكلمتان المراد منهما شرح أحوال قوتهم العاقلة.
وأما قوله: {فالمدبرات أَمْراً} فهو إشارة إلى شرح حال قوتهم العاملة، وذلك لأن كل حال من أحوال العالم السفلي مفوض إلى تدبير واحد من الملائكة الذين هم عمار العالم العلوي وسكان بقاع السموات، ولما كان التدبير لا يتم إلا بعد العلم، لا جرم قدم شرح القوة العاقلة التي لهم على شرح القوة العاملة التي لهم، فهذا الذي ذكرته احتمال ظاهر والله أعلم بمراده من كلامه.
واعلم أن أبا مسلم بن بحر الأصفهاني طعن في حمل هذه الكلمات على الملائكة، وقال: واحد النازعات نازعة وهو من لفظ الإناث، وقد نزه الله تعالى الملائكة عن التأنيث، وعاب قول الكفار حيث قال: {وَجَعَلُواْ الملئكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إناثا} [الزخرف: 19].
واعلم أن هذا طعن لا يتوجه على تفسيرنا، لأن المراد الأشياء ذوات النزع، وهذا القدر لا يقتضي ما ذكر من التأنيث.
الوجه الثاني في تأويل هذه الكلمات: أنها هي النجوم وهو قول الحسن البصري ووصف النجوم بـ: {النازعات} يحتمل وجوهاً: أحدها: كأنها تنزع من تحت الأرض فتنجذب إلى ما فوق الأرض، فإذا كانت منزوعة كانت ذوات نزع، فيصح أن يقال: إنها نازعة على قياس اللابن والتامر وثانيها: أن {النازعات} من قولهم نزع إليه أي ذهب نزوعاً، هكذا قاله الواحدي: فكأنها تطلع وتغرب بالنزع والسوق والثالث: أن يكون ذلك من قولهم: نزعت الخيل إذا جرت، فمعنى: {والنازعات} أي والجاريات على السير المقدر والحد المعين وقوله: {غرقاً} يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون حالاً من {النازعات} أي هذه الكواكب كالغرقى في ذلك النزع والإرادة وهو إشارة إلى كمال حالها في تلك الإرادة،.
فإن قيل: إذا لم تكن الأفلاك والكواكب أحياء ناطقة، فما معنى وصفها بذلك قلنا: هذا يكون على سبيل التشبيه كقوله تعالى: {وَكُلٌّ في فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33] فإن الجمع بالواو والنون يكون للعقلاء، ثم إنه ذكر في الكواكب على سبيل التشبيه والثاني: أن يكون معنى غرقها غيبوبتها في أفق الغرب، فـ: {النازعات} إشارة إلى طلوعها و{غرقاً} إشارة إلى غروبها أي تنزع، ثم تغرق إغراقاً، وهذا الوجه ذكره قوم من المفسرين.
أما قوله: {والناشطات نَشْطاً} فقال صاحب (الكشاف): معناه أنها تخرج من برج إلى برج من قولك: ثور ناشط إذا خرج من بلد إلى بلد.
وأقول يرجع حاصل هذا الكلام إلى أن قوله: {والنازعات غرقاً} إشارة إلى حركتها اليومية {والناشطات نَشْطاً} إشارة إلى انتقالها من برج إلى برج وهو حركتها المخصوصة بها في أفلاكها الخاصة، والعجب أن حركاتها اليومية قسرية، وحركتها من برج إلى برج ليست قسرية، بل ملائمة لذواتها، فلا جرم عبر عن الأول بالنزع وعن الثاني بالنشط، فتأمل أيها المسكين في هذه الأسرار.
وأما قوله: {والسابحات سَبْحاً} فقال الحسن وأبو عبيدة رحمهما الله: هي النجوم تسبح في الفلك، لأن مرورها في الجو كالسبح، ولهذا قال: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33].
وأما قوله: {فالسابقات سَبْقاً} فقال الحسن وأبو عبيدة: وهي النجوم يسبق بعضها بعضاً في السير بسبب كون بعضها أسرع حركة من البعض، أو بسبب رجوعها أو استقامتها.
وأما قوله تعالى: {فالمدبرات أَمْراً} ففيه وجهان أحدهما: أن بسبب سيرها وحركتها يتميز بعض الأوقات عن بعض، فتظهر أوقات العبادات على ما قال تعالى: {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الحمد} [الروم: 17، 18] وقال: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الاهلة قُلْ هي مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج} [البقرة: 189] وقال: {لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب} [يونس: 5] ولأن بسبب حركة الشمس تختلف الفصول الأربعة، ويخلف بسبب اختلافها أحوال الناس في المعاش، فلا جرم أضيفت إليها هذه التدبيرات والثاني: أنه لما ثبت بالدليل أن كل جسم محدث ثبت أن الكواكب محدثة مفتقرة إلى موجد يوجدها، وإلى صانع يخلقها، ثم بعد هذا لو قدرنا أن صانعها أودع فيها قوى مؤثرة في أحوال هذا العالم، فهذا يطعن في الدين ألبتة، وإن لم نقل بثبوت هذه القوى أيضاً، لكنا نقول: أن الله سبحانه وتعالى أجرى عادته بأن جعل كل واحد من أحوالها المخصوصة سبباً لحدوث حادث مخصوص في هذا العالم، كما جعل الأكل سبباً للشبع، والشرب سبباً للري، ومماسة النار سبباً للاحتراق، فالقول بهذا المذهب لا يضر الإسلام ألبتة بوجه من الوجوه، والله أعلم بحقيقة الحال.
الوجه الثالث: في تفسير هذه الكلمات الخمسة أنها هي الأرواح، وذلك لأن نفس الميت تنزع، يقال فلان في النزع، وفلان ينزع إذا كان في سياق الموت، والأنفس نازعات عند السياق، ومعنى {غرقاً} أي نزعاً شديداً أبلغ ما يكون وأشد من إغراق النازع في القوس وكذلك تنشط لأن النشط معناه الخروج، ثم الأرواح البشرية الخالية عن العلائق الجسمانية المشتاقة إلى الاتصال العلوي بعد خروجها من ظلمة الأجساد تذهب إلى عالم الملائكة، ومنازل القدس على أسرع الوجوه في روح وريحان، فعبر عن ذهابها على هذه الحالة بالسباحة، ثم لا شك أن مراتب الأرواح في النفرة عن الدنيا ومحبة الاتصال بالعالم العلوي مختلفة فكلما كانت أتم في هذه الأحوال كان سيرها إلى هناك أسبق، وكلما كانت أضعف كان سيرها إلى هناك أثقل، ولا شك أن الأرواح السابقة إلى هذه الأحوال أشرف فلا جرم وقع القسم بها، ثم إن هذه الأرواح الشريفة العالية لا يبعد أن يكون فيها ما يكون لقوتها وشرفها يظهر منها آثار في أحوال هذا العالم فهي {فالمدبرات أَمْراً} أليس أن الإنسان قد يرى أستاذه في المنام ويسأله عن مشكلة فيرشده إليها؟ أليس أن الابن قد يرى أباه في المنام فيهديه إلى كنز مدفون؟ أليس أن جالينوس قال: كنت مريضاً فعجزت عن علاج نفسي فرأيت في المنام واحدًّا أرشدني إلى كيفية العلاج؟ أليس أن الغزالي قال: إن الأرواح الشريفة إذا فارقت أبدانها، ثم اتفق إنسان مشابه للإنسان الأول في الروح والبدن، فإنه لا يبعد أن يحصل للنفس المفارقة تعلق بهذا البدن حتى تصير كالمعاونة للنفس المتعلقة بذلك البدن على أعمال الخير فتسمى تلك المعاونة إلهاماً؟ ونظيره في جانب النفوس الشريرة وسوسة، وهذه المعاني وإن لم تكن منقولة عن المفسرين إلا أن اللفظ محتمل لها جدًّا.
الوجه الرابع: في تفسير هذه الكلمات الخمس أنها صفات خيل الغزاة فهي نازعات لأنها تنزع في أعنتها نزعاً تغرق فيه الأعنة لطول أعناقها لأنها عراب وهي {ناشطات} لأنها تخرج من دار الإسلام إلى دار الحرب، من قولهم: ثور ناشط إذا خرج من بلد إلى بلد، وهي سابحات لأنها تسبح في جريها وهي سابقات، لأنها تسبق إلى الغاية، وهي مدبرات لأمر الغلبة والظفر، وإسناد التدبير إليها مجاز لأنها من أسبابه.
الوجه الخامس: وهو اختيار أبي مسلم رحمه الله أن هذه صفاة الغزاة فـ: {النازعات} أيدي الغزاة يقال: للرامي نزع في قوسه، ويقال: أغرق في النزع إذا استوفى مد القوس، و{الناشطات} السهام وهي خروجها عن أيدي الرماة ونفوذها، وكل شيء حللته فقد نشطته، ومنه نشاط الرجل وهو انبساطه وخفته، و{السابحات} في هذا الموضع الخيل وسبحها العدو، ويجوز أن يعني به الإبل أيضاً، و{المدبرات} مثل المعقبات، والمراد أنه يأتي في أدبار هذا الفعل الذي هو نزع السهام وسبح الخيل وسبقها الأمر الذي هو النصر، ولفظ التأنيث إنما كان لأن هؤلاء جماعات، كما قيل: المدبرات، ويحتمل أن يكون المراد الآلة من القوس والأوهاق، على معنى المنزوع فيها والمنشوط بها.
الوجه السادس: أنه يمكن تفسير هذه الكلمات بالمراتب الواقعة في رجوع القلب من غير الله تعالى إلى الله {والنازعات غرقاً} هي الأرواح التي تنزع إلى اعتلاق العروة الوثقى، أو المنزوعة عن محبة غير الله تعالى: {والناشطات نَشْطاً} هي أنها بعد الرجوع عن الجسمانيات تأخذ في المجاهدة، والتخلق بأخلاق الله سبحانه وتعالى بنشاط تام، وقوة قوية: {والسابحات سَبْحاً} ثم إنها بعد المجاهدة تسرح في أمر الملكوت فتقطع في تلك البحار فتسبح فيها: {فالسابقات سَبْقاً} إشارة إلى تفاوت الأرواح في درجات سيرها إلى الله تعالى: {فالمدبرات أَمْراً} إشارة إلى أن آخر مراتب البشرية متصلة بأول درجات الملكية، فلما انتهت الأرواح البشرية إلى أقصى غاياتها وهي مرتبة السبق اتصلت بعالم الملائكة وهو المراد من قوله: {فالمدبرات أَمْراً} فالأربعة الأول هي المراد من قوله: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيء} [النور: 35] والخامسة: هي النار في قوله: {وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} [النور: 35].
واعلم أن الوجوه المنقولة عن المفسرين غير منقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نصاً، حتى لا يمكن الزيادة عليها، بل إنما ذكروها لكون اللفظ محتملاً لها، فإذا كان احتمال اللفظ لما ذكرناه ليس دون احتماله للوجوه التي ذكروها لم يكن ما ذكروه أولى مما ذكرناه إلا أنه لابد هاهنا من دقيقة، وهو أن اللفظ محتمل للكل، فإن وجدنا بين هذه المعاني مفهوماً واحدًّا مشتركاً حملنا اللفظ على ذلك المشترك: وحينئذ يندرج تحته جميع هذه الوجوه.
أما إذا لم يكن بين هذه المفهومات قدر مشترك تعذر حمل اللفظ على الكل، لأن اللفظ المشترك لا يجوز استعماله لإفادة مفهومية معاً، فحينذ لا نقول مراد الله تعالى هذا، بل نقول: يحتمل أن يكون هذا هو المراد، أما الجزم فلا سبيل إليه ههنا.
الاحتمال الثاني: وهو أن تكون الألفاظ الخمسة صفات لشيء واحد، بل لأشياء مختلفة، ففيه أيضاً وجوه الأول: {النازعات غرقاً}، هي: القسى، و{الناشطات نشطاً} هي الأوهاق، و{السابحات} السفن، و{السابقات} الخيل، و{المدبرات} الملائكة، رواه واصل بن السائب: عن عطاء الثاني: نقل عن مجاهد: في {النازعات}، و{الناشطات}، و{السابحات} أنها الموت، وفي {السابقات}، و{المدبرات} أنها الملائكة، وإضافة النزع، والنشط، والسبح إلى الموت مجاز بمعنى أنها حصلت عند حصوله الثالث: قال قتادة: الجميع هي النجوم إلا المدبرات، فإنها هي الملائكة.
المسألة الثانية:
ذكر {فالسابقات} بالفاء، والتي قبلها بالواو، وفي علته وجهان الأول: قال صاحب (الكشاف): إن هذه مسيبة عن التي قبلها، كأنه قيل: واللاتي سبحن، فسبقن كما تقول: قام فذهب أوجب الفاء أن القيام كان سبباً للذهاب، ولو قلت: قام وذهب لم تجعل القيام سبباً للذهاب، قال الواحدي: قول صاحب (النظم) غير مطرد في قوله: {فالمدبرات أَمْراً} لأنه يبعد أن يجعل السبق سبباً للتدبير، وأقول: يمكن الجواب عن اعتراض الواحدي رحمه الله من وجهين: الأول: لا يبعد أن يقال: إنها لما أمرت سبحت فسبقت فدبرت ما أمرت بتدبيرها وإصلاحها، فتكون هذه أفعالاً يتصل بعضها ببعض، كقولك قام زيد، فذهب، فضرب عمراً، الثاني: لا يبعد أن يقال: إنهم لما كانوا سابقين في أداء الطاعات متسارعين إليها ظهرت أمانتهم، فلهذا السبب فوض الله إليهم تدبير بعض العالم الوجه الثاني: أن الملائكة قسمان، الرؤساء والتلامذة، والدليل عليه أنه سبحانه وتعالى قال: {قُلْ يتوفاكم مَّلَكُ الموت} [السجدة: 11] ثم قال: {حتى إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام: 61] فقلنا في التوفيق بين الآيتين: أن ملك الموت هو الرأس، والرئيس وسائر الملائكة هم التلامذة، إذا عرفت هذا فتقول: {النازعات}، و{الناشطات} و{السابحات}، محمولة على التلامذة الذين هم يباشرون العمل بأنفسهم، ثم قوله تعالى: {فالسابقات... فالمدبرات} إشارة إلى الرؤساء الذين هم السابقون، في الدرجة والشرف، وهم المدبرون لتلك الأحوال والأعمال.
{يوم ترجف الراجفة (6)} فيه مسائل:
المسألة الأولى:
جواب القسم المتقدم محذوف أو مذكور فيه وجهان الأول: أنه محذوف، ثم على هذا الوجه في الآية احتمالات:
الأول: قال الفراء التقدير: لتبعثن، والدليل عليه ما حكى الله تعالى عنهم، أنهم قالوا: {أَءذَا كُنَّا عظاما نخرة} [النازعات: 11] أي أنبعث إذا صرنا عظاماً نخرة الثاني: قال الأخفش والزجاج: لننفخن في الصور نفختين ودل على هذا المحذوف ذكر الراجفة والرادفة وهما النفختان الثالث: قال الكسائي: الجواب المضمر هو أن القيامة واقعة وذلك لأنه سبحانه وتعالى قال: {والذريات ذَرْواً} [الذاريات: 1] ثم قال: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لصادق} [الذاريات: 5] وقال: {والمرسلات عُرْفاً إِنَّمَا تُوعَدُونَ لواقع} [المرسلات: 7، 1] فكذلك هاهنا فإن القرآن كالسورة الواحدة القول الثاني: أن الجواب مذكور وعلى هذا القول احتمالات الأول: المقسم عليه هو قوله: {قُلُوبٌ يومئِذٍ وَاجِفَةٌ أبصارها خاشعة} والتقدير والنازعات غرقاً أن يوم ترجف الراجفة تحصل قلوب واجفة وأبصارها خاشعة الثاني: جواب القسم هو قوله: {هَلْ أَتَاكَ حديث موسى} [النازعات: 15] فإن هل هاهنا بمعنى قد، كما في قوله: {هَلْ أَتَاكَ حديث الغاشية} [الغاشية: 1] أي قد أتاك حديث الغاشية الثالث: جواب القسم هو قوله: {إِنَّ في ذَلِكَ لَعِبْرَةً لّمَن يخشى} [النازعات: 26].
المسألة الثانية:
ذكروا في ناصب {يوم} بوجهين أحدهما: أنه منصوب بالجواب المضمر والتقدير لتبعثن يوم ترجف الراجفة، فإن قيل كيف يصح هذا مع أنهم لا يبعثون عند النفخة الأولى و{الراجفة} هي النفخة الأولى؟ قلنا المعنى لتبعثن في الوقت الواسع الذي يحصل فيه النفختان، ولا شك أنهم يبعثون في بعض ذلك الوقت الواسع وهو وقت النفخة الأخرى، ويدل على ما قلناه أن قوله: {تَتْبَعُهَا الرادفة} جعل حالاً عن {الراجفة} والثاني: أن ينصب {يوم ترجف} بما دل عليه: {قُلُوبٌ يومئِذٍ وَاجِفَةٌ} أي يوم ترجف وجفت القلوب.
المسألة الثالثة:
الرجفة في اللغة تحتمل وجهين أحدهما: الحركة لقوله: {يوم ترجف الأرض والجبال} [المزمل: 14].
الثاني: الهدة المنكرة والصوت الهائل من قولهم: رجف الرعد يرجف رجفاً ورجيفاً، وذلك تردد أصواته المنكرة وهدهدته في السحاب، ومنه قوله تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة} [الأعراف: 91] فعلى هذا الوجه {الراجفة} صيحة عظيمة فيها هول وشدة كالرعد، وأما {الرادفة} فكل شيء جاء بعد شيء آخر يقال ردفه، أي جاء بعده، وأما القلوب الواجفة فهي المضطربة الخائفة، يقال: وجف قلبه يجف وجافاً إذا اضطرب، ومنه إيجاف الدابة، وحملها على السير الشديد، وللمفسرين عبارات كثيرة في تفسير الواجفة ومعناها واحد، قالوا: خائفة وجلة زائدة عن أماكنها قلقة مستوفزة مرتكضة شديدة الاضطراب غير ساكنة، أبصار أهلها خاشعة، وهو كقوله: {خاشعين مِنَ الذل يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيّ} [الشورى: 45] إذا عرفت هذا فنقول، اتفق جمهور المفسرين على أن هذه الأمور أحوال يوم القيامة، وزعم أبو مسلم الأصفهاني أنه ليس كذلك ونحن نذكر تفاسير المفسرين ثم نشرح قول أبي مسلم.
أما القول الأول: وهو المشهور بين الجمهور، أن هذه الأحوال أحوال يوم القيامة فهؤلاء ذكروا وجوهاً أحدها: أن {الراجفة} هي النفخة الأولى، وسميت به إما لأن الدنيا تتزلزل وتضطرب عندها، وإما لأن صوت تلك النفخة هي {الراجفة}، كما بينا القول فيه، و{الراجفة} رجفة أخرى تتبع الأولى فتضطرب الأرض لإحياء الموتى كما اضطربت في الأولى لموت الأحياء على ما ذكره تعالى في سورة الزمر، ثم يروى عن الرسول صلى الله عليه وسلم «أن بين النفختين أربعين عاماً»، ويروى في هذه الأربعين يمطر الله الأرض ويصير ذلك الماء عليها كالنطف، وأن ذلك كالسبب للأحياء، وهذا مما لا حاجة إليه في الإعادة، ولله أن يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد وثانيها: {الراجفة} هي النفخة الأولى و{الرادفة} هي قيام الساعة من قوله: {عسى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الذي تَسْتَعْجِلُونَ} [النمل: 72] أي القيامة التي يستعجلها الكفرة استبعاداً لها فهي رادفة لهم لاقترابها وثالثها: {الراجفة} الأرض والجبال من قوله: {يوم ترجف الأرض والجبال} و{الرادفة} السماء والكواكب لأنها تنشق وتنتثر كواكبها على أثر ذلك ورابعها: {الراجفة} هي الأرض تتحرك وتتزلزل و{الرادفة} زلزلة ثانية تتبع الأولى حتى تنقطع الأرض وتفنى القول الثاني: وهو قول أبي مسلم أن هذه الأحوال ليست أحوال يوم القيامة، وذلك لأنا نقلنا عنه أنه فسر {النازعات} بنزع القوس و{الناشطات} بخروج السهم، والسابحات بعدو الفرس، و{السابقات} بسبقها، و{المدبرات} بالأمور التي تحصل أدبار ذلك الرمي والعدو، ثم بنى على ذلك فقال: {الراجفة} هي خيل المشركين وكذلك {الرادفة} ويراد بذلك طائفتان من المشركين غزوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقت إحداهما الأخرى، والقلوب الواجفة هي القلقة، والأبصار الخاشعة هي أبصار المنافقين كقوله: {الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المغشي عَلَيْهِ مِنَ الموت} [محمد: 20] كأنه قيل لما جاء خيل العدو يرجف، وردفتها أختها اضطرب قلوب المنافقين خوفاً، وخشعت أبصارهم جبناً وضعفاً، ثم قالوا: {أَءنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الحافرة} [النازعات: 10] أي نرجع إلى الدنيا حتى نتحمل هذا الخوف لأجلها وقالوا أيضاً: {تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسرة} [النازعات: 12] فأول هذا الكلام حكاية لحال من غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين وأوسطه حكاية لحال المنافقين وآخره حكاية لكلام المنافقين في إنكار الحشر، ثم إنه سبحانه وتعالى أجاب عن كلامهم بقوله: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ واحدة فَإِذَا هُم بالساهرة} [النازعات: 14 13] وهذا كلام أبي مسلم واللفظ محتمل له وإن كان على خلاف قول الجمهور.
قوله تعالى: {قُلُوبٌ يومئِذٍ وَاجِفَةٌ أبصارها خاشعة} اعلم أنه تعالى لم يقل: القلوب يومئذ واجفة، فإنه ثبت بالدليل أن أهل الإيمان لا يخافون بل المراد منه قلوب الكفار، ومما يؤكد ذلك أنه تعالى حكى عنهم أنهم يقولون: {أَءنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الحافرة} [النازعات: 10] وهذا كلام الكفار لا كلام المؤمنين، وقوله: {أبصارها خاشعة} لأن المعلوم من حال المضطرب الخائف أن يكون نظره نظر خاشع ذليل خاضع يترقب ما ينزل به من الأمر العظيم.
وفي الآية سؤالان:
السؤال الأول:
كيف جاز الابتداء بالنكرة؟ الجواب: {قلوب} مرفوعة بالابتداء و{واجفة} صفتها و{أبصارها خاشعة} خبرها فهو كقوله: {لَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكٍ} [البقرة: 221].
السؤال الثاني:
كيف صحت إضافة الأبصار إلى القلوب؟
الجواب: معناه أبصار أصحابها بدليل قوله: {يقولون}، ثم اعلم أنه تعالى حكى هاهنا عن منكري البعث أقوالاً ثلاثة:
أولها: قوله تعالى: {يَقولونَ أَءنَّا لَمَرْدُودُونَ في الحافرة} يقال رجع فلان في حافرته أي في طريقه التي جاء فيها فحفرها أي أثر فيها بمشيه فيها جعل أثر قدميه حفراً فهي في الحقيقة محفورة إلا أنها سميت حافرة، كما قيل: {فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [الحاقة: 21] و{مَّاء دَافِقٍ} [الطارق: 6] أي منسوبة إلى الحفر والرضا والدفق أو كقولهم نهارك صائم، ثم قيل لمن كان في أمر فخرج منه ثم عاد إليه رجع إلى حافرته، أي إلى طريقته وفي الحديث: «إن هذا الأمر لا يترك على حاله حتى يرد على حافرته» أي على أول تأسيسه وحالته الأولى وقرأ أبو حيوة {في الحفرة}، و{الحفرة} بمعنى المحفورة يقال: حفرت أسنانه، فحفرت حفراً، وهي حفرة، هذه القراءة دليل على أن {الحافرة} في أصل الكلمة بمعنى المحفور، إذا عرفت هذا ظهر أن معنى الآية: أنرد إلى أول حالنا وابتداء أمرنا فنصير أحياء كما كنا.
وثانيها: قوله تعالى: {أَءِذَا كُنَّا عظاما نخرة}.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
قرأ حمزة وعاصم {ناخرة} بألف، وقرأ الباقون {نخرة} بغير ألف، واختلفت الرواية عن الكسائي فقيل: إنه كان لا يبالي كيف قرأها، وقيل: إنه كان يقرؤها بغير ألف، ثم رجع إلى الألف، واعلم أن أبا عبيدة اختار {نخرة}، وقال: نظرنا في الآثار التي فيها ذكر العظام التي قد نخرت، فوجدناها كلها العظام النخرة، ولم نسمع في شيء منها الناخرة، وأما من سواه، فقد اتفقوا على أن الناخرة لغة صحيحة، ثم اختلف هؤلاء على قولين: الأول: أن الناخرة والنخرة بمعنى واحد قال الأخفش هما جميعاً لغتان أيهما قرأت فحسن، وقال الفراء: الناخر والنخر سواء في المعنى بمنزله الطامع والطمع، والباخل والبخل، وفي كتاب (الخليل) نخرت الخشبة إذا بليت فاسترخت حتى تتفتت إذا مست، وكذلك العظم الناخر، ثم هؤلاء الذين قالوا: هما لغتان والمعنى واحد اختلفوا فقال الزجاج والفراء: الناخرة أشبه الوجهين بالآية لأنها تشبه أواخر سائر الآي نحو {الحافرة} و{الساهرة}، وقال آخرون: الناخرة والنخر كالطامع والطمع، واللابث واللبث وفعل أبلغ من فاعل القول الثاني: أن النخرة غير والناخرة غير، أما النخرة فهو من نخر العظم ينخر فهو نخر مثل عفن يعفن فهو عفن، وذلك إذا بلي وصار بحيث لو لمسته لتفتت، وأما الناخرة فهي العظام الفارغة التي يحصل من هبوب الريح فيها صوت كالنخير، وعلى هذا الناخرة من النخير بمعنى الصوت كنخير النائم والمخنوق لا من النخر الذي هو البلى.
المسألة الثانية:
إذاً منصوب بمحذوف تقدير إذا كنا عظاماً نرد ونبعث.
المسألة الثالثة:
اعلم أن حاصل هذه الشبهة أن الذي يشير إليه كل أحد إلى نفسه بقوله: أنا هو هذا الجسم المبني بهذه البنية المخصوصة، فإذا مات الإنسان فقد بطل مزاجه وفسد تركيبه فتمتنع إعادته لوجوه أحدها: أنه لا يكون الإنسان العائد هو الإنسان الأول إلا إذا دخل التركيب الأول في الوجود مرة أخرى، وذلك قول بإعادة عين ما عدم أولاً، وهذا محال لأن الذي عدم لم يبق له عين ولا ذات ولا خصوصية، فإذا دخل شيء آخر في الوجود استحال أيقال بأن العائد هو عين ما فني أولاً وثانيها: أن تلك الأجزاء تصير تراباً وتتفرق وتختلط بأجزاء كل الأرض وكل المياه وكل الهواء فتميز تلك الأجزاء بأعيانها عن كل هذه الأشياء محال وثالثها: أن الأجزاء الترابية باردة يابسة قشفة فتولد الإنسان الذي لابد وأن يكون حاراً رطباً في مزاجه عنها محال، هذا تمام تقرير كلام هؤلاء الذين احتجوا على إنكار البعث بقولهم: {أَءذَا كُنَّا عظاما نخرة} والجواب: عن هذه الشبهة من وجوه أولها: وهو الأقوى: لا نسلم أن المشار إليه لكل أحد بقوله: أنا هو هذا الهيكل، ثم إن الذي يدل على فساده وجهان الأول: أن أجزاء هذا الهيكل في الزوبان والتبدل، والذي يشير إليه كل أحد إلى نفسه بقوله أنا ليس في التبدل والمتبدل مغاير لما هو غير متبدل والثاني: أن الإنسان قد يعرف أنه هو حال كونه غافلاً عن أعضائه الظاهرة والباطنة، والمشعور به مغاير لما هو غير مشعور به وإلا لاجتمع النفي والإثبات على الشيء الواحد وهو محال، فثبت أن المشار إليه لكل أحد بقوله: أنا ليس هو هذا الهيكل، ثم هاهنا ثلاث احتمالات أحدها: أن يكون ذلك الشيء موجوداً قائماً بنفسه ليس بجسم ولا بجسماني على ما هو مذهب طائفة عظيمة من الفلاسفة ومن المسلمين وثانيها: أن يكون جسماً مخالفاً بالماهية لهذه الأجسام القابلة للإنحلال والفساد سارية فيها سريان النار في الفحم وسريان الدهن في السمسم وسريان ماء الورد في جرم الورد فإذا فسد هذا الهيكل تقلصت تلك الأجزاء وبقيت حية مدركة عاقلة، إما في الشقاوة أو في السعادة وثالثها: أن يقال: إنه جسم مساو لهذه الأجسام في الماهية إلا أن الله تعالى خصها بالبقاء والاستمرار من أول حال تكون شخص في الوجود إلى آخر عمره، وأما سائر الأجزاء المتبدلة تارة بالزيادة وأخرى بالنقصان فهي غير داخلة في المشار إليه بقوله أنا فعند الموت تنفصل تلك الأجزاء. وتبقى حية، إما في السعادة أو في الشقاوة، وإذا ظهرت هذه الاحتمالات ثبت أنه لا يلزم من فساد البدن وتفرق أجزائه فساد ما هو الإنسان حقيقة، وهذا مقام حسن متين تنقطع به جميع شبهات منكري البعث.
وعلى هذا التقدير لا يكون لصيرورة العظام نخرة بالية متفرقة تأثير في دفع الحشر والنشر ألبتة، سلمنا على سبيل المسامحة أن الإنسان هو مجموع هذا الهيكل، فلم قلتم: إن الإعادة ممتنعة؟
أولاً: المعدوم لا يعاد: قلنا: أليس أن حال عدمه لم يمتنع عندكم صحة الحكم عليه بأنه يمتنع عوده، فلم لا يجوز أن لا يمتنع على قولنا أيضاً صحة الحكم عليه بالعود، قول: ثانياً: الأجزاء القليلة مختلطة بأجزاء العناصر الأربعة، قلنا لكن ثبت أن خالق العالم عالم بجميع الجزئيات، وقادر على كل الممكنات فيصح منه جمعها بأعيانها. وإعادة الحياة إليها.
قوله: ثالثاً: الأجسام القشفة اليابسة لا تقبل الحياة.
قلنا: نرى السمندل، يعيش في النار، والنعامة تبتلع الحديدة المحماة، والحيات الكبار العظام متولدة في الثلوج، فبطل الاعتماد على الاستقراء، والله الهادي إلى الصدق والصواب.
{قالوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خاسِرة (12)}
النوع الثالث: من الكلمات التي حكاها الله تعالى عن منكري البعث {قالواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسرة} والمعنى كرة منسوبة إلى الخسران، كقولك تجارة رابحة، أو خاسر أصحابها، والمعنى أنها إن صحت فنحن إذاً خاسرون لتكذيبنا، وهذا منهم استهزاء.
واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم هذه الكلمات قال: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)}.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
الفاء في قوله: {فَإِذَا هُم} متعلق بمحذوف معناه لا تستصعبوها فإنما هي زجرة واحدة، يعني لا تحسبوا تلك الكرة صعبة على الله فإنها سهلة هينة في قدرته.
المسألة الثانية:
يقال: زجر البعير إذا صاح عليه، والمراد من هذه الصيحة النفخة الثانية وهي صيحة إسرافيل، قال المفسرون: يحيهم الله في بطون الأرض فيسمعونها فيقومون، ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وَمَا يَنظُرُ هَؤُلاء إِلاَّ صَيْحَةً واحدة مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ} [ص: 15].
المسألة الثالثة:
الساهرة الأرض البيضاء المستوية سميت بذلك لوجهين الأول: أن سالكها لا ينام خوفاً منها الثاني: أن السراب يجري فيها من قولهم عين ساهرة جارية الماء، وعندي فيه وجه ثالث: وهي أن الأرض إنما تسمى ساهرة لأن من شدة الخوف فيها يطير النوم عن الإنسان، فتلك الأرض التي يجتمع الكفار فيها في موقف القيامة يكونون فيها في أشد الخوف، فسميت تلك الأرض ساهرة لهذا السبب، ثم اختلفوا من وجه آخر فقال بعضهم: هي أرض الدنيا، وقال آخرون: هي أرض الآخرة لأنهم عند الزجرة والصيحة ينقلون أفواجاً إلى أرض الآخرة ولعل هذا الوجه أقرب. اهـ.